إلى السلاح، أيها المواطنون!
شكلوا صفوفكم!
فلنزحف! فلنزحف!
وليتشبع تراب أرضنا من دمائهم القذرة!
تتخيل أنك لاعب كرة قدم من أصول أفريقية وُفقت بطريقة ما في تمثيل منتخب فرنسا الأول، وقبل انطلاق أولى مبارياتك مع الفريق طولبت بترديد النشيد الوطني لا مارسييز، وتحديدًا المقطع أعلاه بشغف، وإلا قد تعد خائنًا للجمهورية الفرنسية.
هذا هو حجم التعقيدات التي يختبرها أكثر من نصف قائمة المنتخب الفرنسي من السود والملونين الذين لطالما اتهم أفراده من قبل اليمين السياسي بأنهم ليسوا فرنسيين كفاية أو بالأحرى هم فرنسيون على الورق، نظرًا لأنهم ولدوا داخل فرنسا، لكن أصولهم تعود للبلدان التي تقاطع تاريخ فرنسا الاستعمارية معها.
والسؤال: كيف يتحول النشيد الوطني الفرنسي الذي يبدو عنصريًا للوهلة الأولى لوقود دفع نفس العناصر لتحقيق نجاحات متتالية بالعقود الأخيرة؟ لنرَ
لقد مرت عائلتي، مثل عديد من عائلات الكاناك، بتجارب مروعة. لا أستطيع أن أغني النشيد الفرنسي لأنني أعرف تاريخ شعبي.
كريستيان كاريمبو، لاعب منتخب فرنسا السابق.
ظلت مسألة ترديد لاعبي منتخب فرنسا الذين يمتلكون أصولًا أخرى للنشيد الوطني محل جدل دائر منذ التسعينيات، وكان أبرز من اتهموا بانقسام ولائهم زين الدين زيدان وكريم بنزيما وكاريمبو وغيرهم ممن فضلوا الصمت أثناء عزف لا مارسييز قبل المباريات.
عكس كاريمبو، لم يصرح أحد من اللاعبين بأسباب رفضه غناء النشيد الوطني الفرنسي، بحجة أن ترديد النشيد من عدمه لن يؤثر إيجابًا أو سلبًا على أدائه داخل أرض الملعب وهو ما يعد أكثر أهمية.
المفاجأة هي أن مقطع الدماء القذرة في لا مارسييز ليس موجهًا لأصحاب الأصول الملونة في فرنسا من الأساس، بل إن هذه الكلمات صيغت بعناية لإثارة حماسة الشعب الفرنسي أثناء الثورة الفرنسية بالقرن الثامن عشر، قبل أن يتم اعتماده نشيدًا وطنيًا للجمهورية منذ 1830 وحتى الآن.
لكن مع الوقت، تحول النشيد الوطني الذي أسهم في رفع المعنويات على مدار تاريخ فرنسا إلى أغنية غير مريحة، لا يمكن سماعها من دون تهكم، لسبب بسيط وهو إساءة استخدامها.
يرى ماجد شيرفي الكاتب الفرنسي جزائري الأصل أن لا مارسييز ضاعت في الحداثة، إذ تمثل الأغنية فرنسا التي كانت قبل قرنين من الزمن، بينما أصبحت تستخدم في الوقت المعاصر للإشارة إلى الاختلافات وليس توحيد الأمة.
بنفس السياق، يعتقد أليكس مارشال صحفي بالجارديان البريطانية أن الهدف من النشيد الوطني الفرنسي تم تحويره مرات حين استخدمته القوات الفرنسية كأداة تحفيز عند احتلال الجزائر، ومرات أخرى يستخدمه اليمين الفرنسي المتطرف للإشارة إلى المهاجرين إلى فرنسا. لذا، يبدو منطقيًا أن يرفض بعض لاعبي المنتخب غناءه.
تعد الهوية الفردية مصدر فخر لفرنسا: أي إن كل مواطن يحمل جواز سفر فرنسيًا يكون ولاؤه لفرنسا أولًا. هذه هي الرواية التي تبيعها فرنسا للعالم، لدرجة منع الحكومة لجمع المعلومات والبيانات حول الأصل العرقي والإثني لسكانها متعددي الخلفيات.
بالطبع، أسطورة الوحدة الوطنية الفرنسية خيالية تمامًا، لكن الأهم أنها تخفي بنية غريبة للعنصرية. طبقًا لـدينا مونتاچ الباحثة بجامعة ديوك الأمريكية، لا تريد النخب السياسية في فرنسا تسليط الضوء على الآثار الناجمة عن العنصرية عبر تجاهل وجودها من الأساس. لكن كرة القدم وحدها قادرة على كشف زيف هذا الادعاء.
كرة القدم الدولية تدعونا لتخيل الدول، ليست كما هي، بل كما يمكن أن تكون.
الكاتب الأمريكي كلينت سميث.
بعد الفوز بكأس العالم 1998 كان هناك أمل طوباوي في أن فوز فريق من أبناء المهاجرين يمكن أن يساعد في التغلب على العنصرية في فرنسا. روى هذا الانتصار القصة المثالية التي تريد النخب السياسية الترويج لها: أبطال من عرقيات مختلفة، اتحدوا خلف قميص واحد، ومن ثم أصبحوا رموزًا للأمة، بفضل مشروع إسكاني عملاق. بالتالي لا توجد أي مشكلة.
يعتقد الكاتب الفرنسي لوران ديبويه أن العنصرية وإرث الاستعمار متأصل في الثقافة الفرنسية، لذا مسألة دعم الرياضيين السود أو الملونين ليست مرتبطة بتخلص البلاد من العنصرية، بل بالنتائج وحسب.
بالطبع توجد عدة دلالات على هذه الفكرة، لعل أبرزها فضيحة الكوتة التي اتهم فيها عدد من المسؤولين بالاتحاد الفرنسي عام 2011، الذين أبدوا استياء مما يمكن وصفه بتحول المنتخب الفرنسي لمنتخب من السود، عقب الفشل الذريع للمنتخب في كأس العالم 2010.
في الحقيقة، غلبة البشرة السمراء على عناصر المنتخب الفرنسي منذ 1998 وحتى الآن لا علاقة له باستيعاب المجتمع للأقليات، على العكس تمامًا فهو تكريس للعنصرية والتجاهل والتهميش.
طبقًا للمؤرخ الرياضي بيير لان فرانكي مثلت كرة القدم الفرنسية طريقة للتعبير عن الذات بالنسبة لقطاع محدد من السكان، هذا القطاع الذي يتم تجاهله، هؤلاء هم السكان الذين ظهروا في فرنسا في حقبة ما بعد الاستعمار أو أبناء المهاجرين.
هؤلاء هم سكان الـBanlieues أو الضواحي، إذ يسود الفقر والبطالة والمعاناة لمحاربة الصورة النمطية عن سكان هذه الأحياء الفقيرة التي تتكون بالصدفة من السود والعرب وغيرهم من الأقليات المهمشة.
كان باتريس إيفرا قائدًا لمنتخب فرنسا في لحظة ما، أي ما يعني تمام الاعتراف بأنه مواطن فرنسي صحيح؟ في الحقيقة يخبرنا إيڤرا أنه وزملاءه تلقوا مئات الرسائل العنصرية، لكن هذا لم يكن جديدًا على اللاعب.
ما أثار غضبه كانت الرسائل المبطنة التي ترسل له ولزملائه من سود البشرة، فمثلًا في 2020 شرح نجم مانشستر يونايتد الأسبق لماركا الإسبانية معنى التجاهل الذي ذكرناه سلفًا. حيث قال:
في مقر تدريبات المنتخب، يمتلك كل لاعب مكانًا مخصصًا لتناول الطعام، لكن في كل مرة يأتي فيها الرئيس أو أحد الساسة يتم تغيير هذا الترتيب فجأة. إذ يتم إبعادي بجانب مامادو ساخو وبكاري سانيا إلى آخر طاولة الطعام. بينما يظل لوريس وكوسيلني بجانب الشخصية المهمة التي تقوم بزيارة المنتخب.
هكذا فهمنا قواعد اللعبة، إذا أراد الرئيس أخذ صورة تذكارية، يفضل أن تكون مع كوسيلني أو لوريس، بدلًا من ساخو وسانيا.
السؤال المنطقي الآن: ما الذي يدفع لاعبًا يتعرض لحلقات متتالية مما يراه عنصرية للاستمرار في تمثيل هذا البلد كرويًا؟
عندما يحقق المنتخب الوطني نتيجة سيئة، يبدؤون في القول إن هناك كثيرًا من السود والمسلمين وهذا النوع من الأشياء. أنا لا أحب ذلك. لا فائدة بالنسبة لي من اللعب لهذا النوع من البلاد.
بينوا أسو إيكوتو لاعب توتنهام السابق ومنتخب الكاميرون.
نحن الآن نعيش العصر الذي يلعب فيه أبناء الجيل الذي فاز بكأس العالم 1998 الذي لم يكن يراه اليمين الفرنسي فرنسيًا كفاية، لكن الكفة حاليًا في صالح اللاعبين، فأمثال كيليان مبابي وماركوس تورام هم من يقودون حملة ضد اليمين في الانتخابات النيابية. بل إن كيليان مبابي نفسه صديقًا مقربًا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فما الذي تغير، هل انتهت العنصرية بالفعل؟
في الواقع لم تنته العنصرية، تعرض مبابي نفسه لسيل من الرسائل العنصرية بعد أن أهدر ركلة جزاء في يورو 2021، وربما يفوز حزب التجمع الوطني في الانتخابات في يوليو 2024، الذي تهكم رئيسه على اللاعبين وعلى رأسهم مبابي بوصفهم مجموعة من المليونيرات الذين يحاولون لعب دور الناصح.
هنا يجب الإشارة إلى الحقيقة، وهي حتى وإن كانت العنصرية موجودة بالفعل، وحتى وإن كان الجيل الحالي من اللاعبين الفرنسيين يطمح في فرنسا متعددة بالفعل، فهذا لا يمنع كون لعبهم للمنتخب أمرًا مفروغًا منه، لأسباب مهنية بحتة.
يرى ديڤيد ستوري، بروفيسور الجغرافيا الإنسانية بجامعة ورشيستر الإنجليزية، أن اختيار اللاعب الفرنسي لتمثيل الديوك لا يمكن اعتباره تنصلًا من أصوله الأفريقية أو العربية، لكن يجب النظر لهذا القرار في حدود كونه فرصة رياضية أفضل، بمعنى أنه يجب النظر للجنسية الرياضية بشكل مرن بدلًا من النظر له كخيانة لأجداده.
على الجهة المقابلة، تظل فكرة المنتخب الأكثر بياضًا غير منطقية من الأساس، لأن هؤلاء - أصحاب البشرة السمراء - انتزعوا أماكنهم بجدارة، بفضل الظروف الصعبة التي تفرضها العنصرية الفرنسية، التي جعلت كرة القدم واحدة من المجالات القليلة جدًا التي يستطيع من خلالها الفرنسي من أصل آخر انتزاع الاعتراف من الجميع بكونه فرنسيًا.